ملح على الجرح
قصة ~ ملح على الجرح
الكاتبة ~ فريزة محمد سليمان ~ تكتب...
««««««««««««««««««««
ملح على الجرح
ألو
_ عودي إلى البيت
أُغلقتْ سماعة التلفون، على صوت نسائي خائف،يوصل لي رسالة بأن أرجع إلى البيت بعد انتهاء الدوام.
في صباح ذلك اليوم التشريني الجميل، كنا تواعدنا أن نزور أحد الأصدقاء في الريف الجبلي من مدينتنا التي تشتهر بمصايفها، كانت دعوة للغداء بمناسبة زواجنا.
ذلك الصباح الذي تحضرني تفاصيله الصغيرةجداً، من ركوة القهوة، إلى رائحة الهيل إلى منظر الصبح يشرق ببهجة تلمع في أعيننا، إلى زرقة البحر وصوت موجه ا الهادئ الذي لايبعد عن شرفتنا سوى بضعة أمتار، كل مافيه كان يبشر بيوم جميل.
صباحاً يمكن أن يكون عاديا لو لم تختلف الصباحات بعده، وتنقلب رأساً على عقب.
مضى الوقت طويلا وبائسا، وأنا أقلب الأفكار، لمَ ألغى موعد الغداء عند صديقه، ولماذا قال لإحداهن أن تكلمني؟ ولمَ بدا صوتها خائفاً.
هواجسٌ أخذت مني التفكير وأنا عائدة من العمل.
البيت في الطابق الثاني من بناية لصاحب الدار مقسمة إلى شقتين صغيرتين، متقابلتين، يفصلهما ممر يفضي إلى الباب الرئيسي.
فتحت الباب، كان جارنا في الشقة المقابلة وهو صديق زوجي يجلس مع بعض أصدقائه ، ألقيت عليهم السلام ودخلت شقتي.
ناداني متسائلا: ( شو مارحتوا ع الغدا). فالتفت إليه، وقلت: بعث لي خبراً، بأن أعود إلى البيت.
تسمرتُ مكاني وعقدت الدهشة لساني ولم أنطق حرفاً، وأنا أراهم يفرون من أمامي كمن يفر من ألسنة اللهب الحارقة.
لم أستوعب الذي حصل أمامي، ولا أعرف بمن أستعين، حتى البكاء فشلت فيه وبقيت أنتظر عودته عله يفسر لي ماحدث.
كان قد مضى على زواجي أربعون يوما، الأقارب والأصدقاء قلة من هنأني بزواجي، ماذا سأقول لمن يطلب موعد زيارة، أو كيف أخبر أبي وأمي؟
هل سأبقى في البيت وحدي؟ كيف سأداوم وأنا قلقة.؟ ماذا سأقول للناس؟
خرج ولم يعد.
طلع النهار والسيناريوهات في رأسي تعددت، وتشعبت دون أن أصل إلى نتيجة سوى ضرورة العودة إلى بيت أهلي.
الأهل هم الدعم والسند في محنة كان ثمنها عمر الشباب، في ظروف من التعتيم والترهيب، والحكم على الكلمة التي كفل الدستور حريتها، في ظل تغييب الدستور إلا لصالح الفئة الحاكمة.
بعد ثلاثة أشهر ونيف، وبعد مكالمة هاتفية، مختصرة، حضر اثنان كأنهما ناكر ونكير، رافقاني إلى سيارة كانت بانتظاري، حيث حشرت بينهما، وأُخذت إلى بيتي للتفتيش، ومن ثم إلى غرفة التحقيق.
طماشة على عيني، قبل أن أدخل الغرفة، واستجواب لايخلو من الشتائم، والركل، أحضروا زوجي،وقال صوت مخيف :
انصحيه، إنه ضد الدولة، تعجبت بما أنصحه؟ _ أعرفه يقدس العمل ؟! وأنا التي انزعجت منه لعدم استقباله لي عندما زرته ؟ حينها قال لي ببساطة العمل ليس للزيارات، إن اشتقت لي بعد الدوام أذهب لبيتكم.
قلت: لا لا كنت في زيارة قريبي المريض، ولم أكن أعلم حساسية عملك، تأسفت منه وخرجت_ صرخ المحقق في وجهي إنه يعمل في السياسة؟ وركلة في خاصرتي أوقعتني أرضاً، لأعرف حينها أن زوجي معتقل سياسي.
صدقا لم أكن أعلم شيئا، رغم أن أبي سياسي أيضاً، وكنت أظنه يساريا مثله، وكثيرا ماكانا يتناقشان ويختلفان، ولكن لم يثر اهتمامي ذلك فأنا لاأحب السياسة، لكثر ماتعرضت لمضايقات في المدرسة بسبب انتماء أبي، وكونه مخالف للأكثرية.
كانت ليلة سيئة جدا، انتهى الدوام ولم أعد إلى بيت أهلي، وتصورت القلق والهلع الذي سيسببه غيابي عن البيت، حاولت النوم بعد أن كتبتُ قصة حياتي ووقعت على الورقة،عند المحقق الآخر الذي بدا ظريفا، لدرجة أنه بدأ يصحح لي بعض الأخطاء الإملائية، فقلت له أظنني في امتحان صعب وهذه الأخطاء بسيطة، وأعطيته الأجوبة على كل خطأ، وكأنه أستاذ، وأنا طالبته.
خرجت، صباحا وحزن الكون يلفني، وطريق الغد يلفه السواد.
اليوم أعيد تلك الأحداث المؤلمة التي أخذت من عمرينا عشر سنوات، وأنا أتابع فيدوهات تقشعر لها الأبدان، عن أساليب وفنون التعذيب، وعن لوعة الأهل في التفتيش عن أبنائهم المغيبين لسنوات طوال، فأقول لنفسي قصتي رغم ألمها لا تعادل إلا القليل مما جرى.
انتهت.
فريزة محمد سلمان
تعليقات
إرسال تعليق