من وحي الطفولة
ق.ق. ~ من وحي الطفولة
الكاتب ~ محمد نجيب غالمي ~ يكتب...
««««««««««««««««««««
(من وحي الطفولة)
أحداث جسدية ونفسية مؤلمة تطبع حياة الإنسان في مرحلة طفولته. وأنى تكن طبيعة الحدث، وشدة وقعه في الذات يبقى دوما حيا في النفس كجمرة متقدة تحت الرماد مهما طال الأمد.
مثل باقي أقراني واظبت، على الذهاب إلى كتاب الدرب في حي سيدي بوكيل، وأنا في حدود العام الرابع من عمري. كان الجامع عبارة عن حجرة صغيرة نحشر فيها مفترشين حصائر حال لونها من قدم. في الجهة المقابلة صالةواسعة تقام فيها الصلوات الخمس. في حين قامت في الفناء كرمة عنب غالبا ما ننتقل للجلوس قربها في الفترة الصباحية صيفا.
كانت أصواتنا تعلو وتنخفض ونحن نقرأ ما كتب في ألواحنا من السور القصار. والفقيه أمامنا متربع على (هيضورة) فروة خروف، يميد يمنة ويسرة وبيده قضيب زيتون طويل الحجم يطال كل من غفل عن رفع صوته بالقراءة. منظر رتيب يبعث على الملل والسأم. في صباح هذا اليوم المشؤوم أوعز إلي الفضول بأن أتسلق جدع الكرمة في غفلة عن الجميع مغتنما خلو المكان، إلا من أثق فيهم من أبناء جيراننا. قطفت عنقود عنب لم تنضج حباته بعد، وما كنت أعلم بأن عين الرقيب تحصي خطواتي، وأن حسابي سيكون عسيرا بعيد صلاة العصر. ذلك ما حدث، إذ أومأ الفقيه إلى مساعده، وهو أكبرنا سنا، فقام بالإطباق علي وشل حركة جسمي، ليتسنى لمعلمنا الشيخ بأن يهوي على قدمي ضربا بقضيب الزيتون، فأكون عبرة لمن لا يعتبر. صحت من ألم حتى كلت حنجرتي، ثم جففت دموعي وعزمت على أن أكتم مصابي على أسرتي.
عدت إلى المنزل وشمس غشت في كبد السماء ترسل أشعة تلهب الأجساد. عرفت حينئذ أنني لن أدرك صينية الشاي التي تتحلق حولها الأسرة كالعادة في مثل هذا الوقت بعد العصر.
وطأت قدماي عتبة الباب وتوجهت بلهفة نحو الصينية النحاسية ورائحة النعناع وطنين النحل يغمران فناء الدار.
كانت بقايا الشاي تملأ قعور الفناجين ما يشي بأن أفراد أسرتي انتهوا من احتساء الشاي. وبدون ترو أمسكت بقبضة الإبريق (البراد) ثم رفعته. وما إن وضعت فوهة خرطومه في فمي حتى تلقيت لسعة حارة في شفتي العليا من نحلة كانت تسرح هناك. ومن حر الألم هوى البراد فوق الصينية وعلا صياحي فهرع من في الدار إلى حيث ترتجف أطرافي من حر اللذغة. في وقت وجيز انتفخت شفتاي بشكل مهول، فجعلت جدتي تضرب فخذيها بكلتا راحتيها؛ إذ لم تطق أن يسري الانتفاخ في سائر وجهي مصحوبا باحمرار. وعلى وجه السرعة تم نقلي إلى المستشفى المحلي. بعد تلقي العلاج أعادوني إلى المنزل. لم أشعر إلا وأنا محمول على ظهر عويشة، وهي شابة قصيرة القامة بساقها اليمنى انتفاخ من مرض مزمن. كانت، من حين لآخر، تقيم في بيت جدي لتعين جدتي في تدبير الشأن المنزلي. كذلك انطويت على ألمي في ركن من أركان البيت ألوك في حزن صامت لسعة النحلة االعينة، وقضيب الزيتون الذي فعل في أخمص قدمي الأفاعل في كتاب الحي. ومن حين لآخر أسمع صوت جدتي، ينبوع الحنان، تهمس.. أنت فى حمى الله يا بني..
محمد نجيب غالمي
تعليقات
إرسال تعليق