وهن على وهن



 ق.ق. ~ وهن على وهن 

الكاتب~ فاضل العذاري~ يكتب..

««««««««««««««««««

وهن على وهن

عندما دق جرس باب المنزل، أسرع الابن الصغير لفتحه، ثم نادى والده قائلاً:  

- أبي، جدتي عند الباب.  

تفاجأ الأب بهذا الخبر وسأله باستغراب:  

- من الذي أحضرها؟  

أجابه الابن:  

- عمي قال لي أن أخبرك، ثم تركها على الكرسي المتحرك وغادر بسرعة.  

خرج الأب غاضباً دون أن يرحب بأمه، وأخرج هاتفه من جيبه ليتصل بأخيه الأصغر قائلاً:  

- كيف تجرؤ على إحضارها إلى منزلي دون استئذان أو استشارة؟ ولماذا لم تحتفظ بها عندك؟  

أجابه الأخ:  

- لست ملزماً برعايتها، فهي أمك أيضاً، وأنت الابن الأكبر.  

رد عليه بسخرية:  

- لا تبحث عن أعذار، قل إن زوجتك ترفض وجودها في المنزل، ولا يمكنك عصيان أمرها. اسمع، تعال وأعدها إلى منزلك، وإلا ستبقى في الشارع دون أن تدخل.  

امتعض الأخ من حديثه، مؤنبًا:  

- من المؤكد أنك ستتخلى عنها وترميها في الشارع بعد أن حولت منزلها باسمك في السجل العقاري ثم وهبته رسمياً لزوجتك.  

رد عليه بأسلوب مماثل:  

- وهل تختلف عني أنت عندما سحبت كل أموالها ومجوهراتها الذهبية؟  

ثم أنهى المكالمة غاضبًا ودخل المنزل. أغلق الباب خلفه، تاركاً أمه في الشارع جالسة على كرسي المعاقين، وقد سمعت كل ما دار من جدال حولها.  

كانت تلك الأم المسكينة تكافح بشجاعة لمنع دموعها من الانهمار، تبذل قصارى جهدها لتجنب إظهار علامات الضعف أو الإذلال على ملامحها المتعبة، وقد زادت حيرتها وارتفعت الأسئلة في ذهنها: كيف حدث هذا؟ ولماذا تُركت مهمشة ووحيدة ومُهملة في الشارع كشيء قديم انتفت الحاجة إليه وتم الاستغناء عنه. سعت للعثور على مأوى يخفف من وطأة الوحدة التي تثقل كاهلها، وفجأة، انفتح أمامها باب أحد الجيران لتظهر امرأة تحمل نظرة مثقلة بعبء خيبات متراكمة عبر السنين. اعتذرت لها بأسى قائلة: 

- لا أستطيع استضافتك، زوجي لن يسمح بذلك حتى لليلة واحدة.

وجدت نفسها محاطة بأجواء باردة وموحشة، بينما كانت السيارات تمر بجوارها بسرعة دون أن تعيرها أي اهتمام. تحاول بقبضتي يديها دفع عجلتي الكرسي إلى الأمام. كان الوقت يقترب من غروب الشمس، وبدأت المتاجر تغلق أبوابها، بينما تُتلى عبر مكبرات الصوت سورة من القرآن الكريم استعدادًا لرفع الآذان.

 تذكرت كيف حاول أحد المقربين التدخل لتقديم وجهة نظر تهدف إلى حل الأزمة، مستندًا إلى مجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة التي تحث على بر الوالدين. لكن رد الابن الأصغر كان جافًا: 

- أنا لا أريدها في منزلي؛ كي لا تزورني عائلة أخي الذين أراهم يتناولون باشتهاء كل مايعد لهم على مائدة الطعام، ويحركون الملاعق بشراهة داخل أكواب الشاي أو القهوة، وكأنني قد افتتحت مطعماً أو مقهى يتبادلون فيه الضحكات والمحادثات والجلسات العائلية بشغف صاخب دون أي شعور بالضيق أو الحرج.

اما الابن الأكبر فقد كان يشعر بالانزعاج من الانتقادات المتكررة التي توجهها الجدة لأبنائه وبناته، وتدخلها في تصرفاتهم، مما يقيّد حريتهم حتى في اختيار ثيابهم.

كانت تعيش في حالة من الحيرة والارتباك بشأن مستقبلها، إذ لم يكن لديها أي دعم من أحد. كان الجميع من الأقرباء حولها يواجهون تحديات في حياتهم، سواء كانوا من الأثرياء أو من ذوي الدخل المتوسط أو الفقراء. أما إخوتها الثلاثة، فاثنان منهم يقيمان في الخارج، بينما يعيش الثالث مع عائلته الكبيرة في الوطن. 

شعرت باليأس من العثور على حل، خاصة بعد أن نفدت جميع أموالها وفقدت منزلها من أجل ولديها. ومع ذلك، كانت تتساءل في داخلها لماذا ابتعدا عنها بهذه القسوة. لقد تغيرت صفات الصفاء والطيبة التي كانت تميزهما نتيجة لتجارب الحياة القاسية، مما دفعهما بعيدًا عن خصالهما النبيلة. لقد اختبرتهما الحياة، وفشلا في اجتياز أصعب امتحاناتها، وآن الأوان لهما أن يواجها نفسيهما بصدق، ليتأملا خياراتهما وتوجهاتهما خشية أن ينزلا إلى مرحلة العقوق. لكنها ظلت عالقة بين براثن الأمل الكاذب والانتظار المؤلم.

لم يمض وقت طويل حتى تلقى الابن الأكبر اتصالًا هاتفيًا من خاله، الذي أخبره بعد التحية: 

- يجب أن تحضر والدتك غدًا إلى المحكمة لإجراء القسام الشرعي بيننا، حيث ظهرت لدى والدنا المرحوم أرض مشتركة مع إخوته تم بيعها للدولة، مما يستدعي توقيعها لاستلام حصتها من الأموال.

ما إن سمع الخبر حتى اندفع بلهفة عارمة إلى الشارع بحثًا عنها، وطرق أبواب الجيران دون جدوى. التقى الأخوان اللذان كانا يبحثان عن والدتهما، آمليْن في العثور عليها في أي مكان. فجأة، أدركا أن والدتهما هي أغلى ما يملكان، لذا استمرا في التجول بين الطرقات والمستشفيات ومراكز الشرطة حتى أصابهما التعب. في صباح اليوم التالي، قررا الاستفسار في المحكمة عن وضع والدتهما، وما إذا كان الإرث سينتقل إليهما في حال فقدانها. كانت إجابة الموظف صادمة لهما، حيث استغرب من حديثهما قائلاً: 

- إنها لا تزال على قيد الحياة، وقد زارت المحكمة وتبرعت بحصتها لإنشاء دار مخصصة لمساعدة كبار السن الذين تخلى عنهم أبناؤهم، وتُركوا دون أي رعاية أو اهتمام يضمن لهم حياة كريمة وآمنة في سنواتهم المتقدمة.

                      فاضل العذاري/ العراق

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع