رماد الأمل
ق . ق ~ رماد الأمل
الكاتب ~ حسين بن قرين درمشاكي ~يكتب..
««««««««««««««««««
رماد الأمل
بثقل الوجع، يلتف الليل على المكان ككفن خانق. صمت حديدي بارد الملمس يخنق الأنفاس ويحبس الروح المنهكة في مهجع الجراح. لم يجد "علي" سلوى إلا في نبضة "أحمد" الخافتة، تحديًا يائسًا لزمهرير الوحدة المتسرب إلى أوصاله، ذكرى باهتة لدفء غائب يلوح كحلم بعيد. من ثنايا ملابسه الرثة، عبير طفولة شاحبة يفوح بروائح باهتة، عطر نادر يتسرب من قبر مهجور، رائحة ترابية ممزوجة بلمسة حليب جف، براءة مهددة بالزوال. صرير رصاص بعيد... وسواس معدني بارد، لحظة موت تتربص في الأذنين، همس الموت يتسلل على الرمال، لحن خراب يومي معتاد. أنفاس "أحمد" القصيرة ترفرف كجناح عصفور مصاب، محاولة يائسة للتحليق نحو سماء بعيدة، صوت رفرفه الخافت يكاد يضيع في الصمت.
في ليل مطبق تلفه وحشة خانقة، اخترقت سمع "علي" همسات خشنة تلتوي كأفاع سامة خلف جدران خرابه المتداعي، تحمل عبق البارود العالق ورائحة الخوف المتصاعد... رائحة الموت القريبة تخيم كثقل على الأنفاس. أنفاس ضارية تتربص كوحش كاسر يتحسس ضعف الفرائس المتصاعدة من بين الأنقاض... وهمسات الموت تلتصق بالروح كظل ثقيل، تهديد دائم يخيم على الأنفاس القصيرة. أصوات غليظة تنعق بالشؤم كغربان تتداول خبر تمشيط الحي في سكون الليل... نذير شؤم يتردد صداه في الفراغ الموحش، ويزرع بذور الرعب في أعماق القلب المتوجع. تجمد الدم في عروق "علي" وهو يحتضن "أحمد" النحيل بقوة الغريق المتشبث بقشة، آخر ما يملك في هذا العالم المحطم. قلبه يقرع بعنف... إيقاع خوف بدائي يرسم صورة خطر وشيك يتربص في الظلام الدامس. ذراعان عاريتان وروح متشبثة بابنه، آخر سلاحه، آخر بصيص نور يحاول مقاومة ليل دامس يبتلع كل شيء.
مع أول خيوط الفجر الكاذبة المتسللة بخجل عبر ثقوب الجدران المتصدعة، اتخذ "علي" قرارًا مصيريًا: الهرب نحو المجهول؛ فناء أو بقاء، قفزة في العتمة الحالكة. همسات عن قرية نائية، واحة شاحبة في قلب الخراب المترامي، كانت حياة "أحمد" أثمن من كل شيء، أثمن من الهواء الملوث الذي يستنشقه، أثمن من ذكرياته الشاحبة التي تتلاشى. انطلق "علي" يحمل "أحمد"... شبحًا خائفًا يتسلل بين الأطلال حاملًا جزءًا من روحه المفقودة، متفاديًا الشوارع الرئيسية المزدحمة بالخطر المتربص، وسالكًا الأزقة الضيقة المتصدعة التي تئن تحت وطأة الدمار، حيث رائحة الموت عالقة كذكرى أبدية لا تفارق. التقى بعجوز، تجاعيد وجهها خارطة لزمن ولى، حفرت عليها الحرب قصص الفقد والأمل الباهت، ندوبًا تحكي عن صمود ويأس مرير. عالجت جراحه المنهكة بضمادات بالية وهمست محذرة بصوت خفيض كخشخشة أوراق خريفية تحت الأقدام: "الدواعش يوسعون نطاق بحثهم كجراد منتشر نحو الشمال الشرقي. احذر يا بني، فعينهم لا تخطئ الصغار، يرون فيهم المستقبل الذي يحاولون طمسه، بذور فتنتهم التي يسعون لغرسها." قشعريرة باردة سرت في أوصال "علي"... لكن كلمات العجوز، الناجية التي فقدت كل شيء إلا حكمة السنين ونظرة ثاقبة للشر المستشري، غرست فيه عزيمة صلبة: يجب أن يسبقهم، أن يفلت من ظل الموت المخيم على كل شيء، وأن يحمي شعلة الحياة الصغيرة المتشبثة به.
بعد أيام مضنية تمزق الجسد والروح، وصل "علي" و"أحمد" إلى مشارف القرية الموعودة، واحة باهتة تبدو من بعيد كنقطة ضوء شاحبة في قلب ذلك الخراب المترامي، سراب أمل يلوح في صحراء اليأس الممتدة. لكن الهدوء الذي خيم عليها كان خداعًا... كابتسامة جلاد قبل الضربة القاضية، يخفي تحته تهديدًا مبطنًا، صمتًا يسبق عاصفة قادمة لا محالة. سرعان ما اكتشف آثار أقدام غريبة وشعارات للدواعش تنذر بالشؤم على الجدران المنهارة... بصمات موت مبكرة على جبين الأمل الوليد، وعلامات تنذر بالخطر القادم الذي يتربص بهم. لم يكن هذا الملاذ الآمن الذي طالما حلم به، بل فخًا محتملًا يخبئ خطرًا كامنًا في سكونه المخيف... كمينًا ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على آخر بقايا الأمل. في إحدى الليالي الحالكة التي يلفها صمت مطبق كثيف كالكفن، بينما بحث "علي" بخطر عن طعام شحيح لإسكات جوعه وجوع ابنه... جوع ينهش الروح قبل الجسد، حاجة بدائية للبقاء تدفعه للمخاطرة، تسللت أفاعي الدواعش السامة إلى مخبئه المتهالك بخبث. استيقظ على صرخات مكتومة تمزق سكون الليل المطبق، ورأى ظلًا أسود يتحرك نحو فراش "أحمد" الخالي... فراغ يصرخ بالغياب الموجع، صرخة صامتة تمزق قلبه إربًا. اندفع بجنون كأسد جريح يزمجر ألمًا مفجعًا... لكن الأوان فات، ووجد سرير "أحمد" الصغير فارغًا، وبركة من الفراغ البارد تلسع قلبه كلسعة عقرب سام، تاركة سمًا يسري في روحه المنهكة... سم اليأس والفقدان القاتل. تصدع عالم علي الداخلي، وانهار كل ما تبقى من يقين.
تملكه اليأس للحظة، لكن صورة وجه "أحمد" الصغير، ابتسامته الشاحبة التي كانت تضيء عتمة حياته كشمعة وحيدة في مهب الريح العاصف، أيقظت فيه غضبًا بدائيًا وقوة كامنة انفجرت كبركان خامد، ثورة على الظلام الذي ابتلع ابنه ونور عينه. لم يعد الأمر يتعلق بالبقاء فحسب، بل باستعادة الأمل الحي المتجسد في ابنه، وباسترجاع نور عينه الذي أطفأه الظلام الدامس. انطلق "علي" في مطاردة محمومة عبر الظلام الدامس الذي لا يرحم... أنفاسه لاهثة كصياد يتعقب فريسته في ليل لا يرحم، متتبعًا آثار الأقدام الخفيفة في الغبار الناعم حتى بلغ معسكرًا مؤقتًا للدواعش يقع على أطراف القرية المنكوبة، بؤرة سوداء تنشر الرعب وتستنشق الأمل المتبقي في الأرجاء. كان عددهم يفوقه أضعافًا، لكن عينيه كانتا مثبتتين على خيمة مهترئة في المنتصف، حيث انبعث بكاء طفل يمزق سكون الليل المطبق، بوصلته الوحيدة في هذا الظلام الحالك، صرخة أمل يائسة تخترق العتمة. في مواجهة يائسة مع الموت المحدق، تسلل "علي" إلى المعسكر المكتظ بالخطر كظل صامت لا يرى ووجد "أحمد" محتجزًا مع أطفال مذعورين، عيونهم شاردة في متاهات الخوف العميق، براعم ذابلة تنتظر الإنقاذ من براثن الظلام. فجأة، دوى انفجار بعيد هز أرجاء القرية الهادئة، تبعه صراخ وهرج ومرج في أرجاء المعسكر كعاصفة هوجاء تقتلع الهدوء الزائف، تمنح فرصة للنجاة لم تكن في الحسبان. استغل "علي" هذه اللحظة الحاسمة، وركض بكل قوته المتبقية حاملاً "أحمد" الذي تشبث بعنقه كغصن يائس يتعلق ببصيص نور، وتبعه بعض الأطفال الآخرين الذين استمدوا الشجاعة من فعله البطولي اليائس، شرارات أمل تضيء عتمة اليأس القاتل. في الخارج، كانت فوضى عارمة تعم المكان كجحيم على الأرض. وسط هذا الهرج والمرج، تمكن "علي" والأطفال من الفرار نحو الظلام الدامس الذي ابتلعهم برحمة، تاركين خلفهم معسكر الموت وبراثن الظلام. مع انبلاج الفجر الباهت الذي كشف عن وجه الخراب الممتد، وجدوا أنفسهم في العراء القاسي، منهكين وجائعين حتى الرمق الأخير، لكن "أحمد" كان لا يزال بين ذراعي "علي"، ينبض بالحياة كشعلة صغيرة تحاول إضاءة رماد عالم محترق، وعد ببداية جديدة تلوح في الأفق البعيد.
حسين بن قرين درمشاكي
كاتب وقاص ليبي
تعليقات
إرسال تعليق