القرش الأبيض
ق.ق. ~ القرش الأبيض
الكاتب ~ د . جرجس حوراني ~ يكتب..
««««««««««««««««««««««
القرش الأبيض
كنا نلتقي كل خميس عند طاولة منسية في "مقهى الساعة" —
نكسر صمت الأسبوع بنردٍ يتدحرج فوق الخشب، وكؤوس شاي تتصاعد منها رائحة النعناع.
في ذلك المساء، وبينما كنت أنفض الغبار عن كؤوسنا، قال بديع بصوتٍ بالكاد يُسمع:
ـ البارحة... زرت جدي.
حدّق فيه سمير طويلًا، ثم ضحك ضحكة خفيفة فيها شيء من السخرية.
وقف، ولوّح للنادل:
ـ أبو عبدو! شاي للجميع، على حسابي... صاحبنا زار جده!
دوت الضحكات في المقهى، كتيار كهربائي اخترق الهواء الراكد.
ثم مال سمير على الطاولة وقال مازحًا:
ـ زرت جدك؟! وهل هذا يمنع الهزيمة التي تنتظرك الليلة؟
لكن بديع لم يضحك، ولم يلتفت.
كان غارقًا في مكان آخر.
قال بهمسٍ يحمل ظل حنين:
ـ لم أرَ جدي يومًا كما رأيته البارحة...
كان رجلاً مكسور الظل، قابعًا على كرسيه المتحرك، كأن الحياة مرت فوقه ومضت.
كم كان قويًا يا الله...!
وكيف ينحني الجبل أمام ريح العمر...
صمت قليلًا، وكأن شيئًا ثقيلًا يستعصي على الخروج، ثم أضاف:
ـ والأغرب... جدتي.
كانت تمسح يده، وتداعب أصابعه الذابلة بأنامل مرتجفة.
كأنها تعزف على وتر مقطوع أغنية قديمة لا تريد أن تموت.
كانت نظراتها عالقة به، لا تفارقه لحظة، كأنها تخشى أن تفقد حتى رمشًا من ملامحه.
حين أحضرت الماء الساخن، جلست تغسل قدميه، تفركهما بخشوع لا يشبه خدمة، بل يشبه صلاة.
وأنا أنظر، كأنما أشهد مشهدًا من كتاب مقدس نُسي فوق رفوف النسيان.
وعندما غابت لتحضير القهوة، لم أحتمل، فقلت له:
ـ كم أنت محظوظ بجدتي، جدي.
هل تصدق أن زوجتي بالكاد تعد لي الغداء؟ بالكاد تهمس بكلمة "يعطيك العافية"!
ابتسم جدي، بان ما تبقى من أسنانه الصفراء، وقال:
ـ المرأة، يا بني، ذاكرة تسجل ولا تنسى.
تخزن الهمسة واللمسة والخذلان والكرم... كل شيء.
والرجل العاقل هو من يزرع في ذاكرتها ما يعود إليه يوم يفقد عافيته.
سعل قليلاً، ثم أردف:
ـ كنا نظن أن "القرش الأبيض" هو المال.
لكنه في الحقيقة، العمل الطيب الذي تدخره في قلوب من تحب.
ذلك العمل الذي يكبر بمرور السنين، لا يتآكل ولا ينسى.
الرجل الذي يظن أن قوته ستدوم، أحمق.
أما الذي يعرف أن الأيام ستسلبه كل شيء، فهو من يصنع ملاذه في صدور الآخرين.
أقول لك يا بني: جدك طوال عمره كان يدّخر في بنك جدتك، وفي ذاكرتها، وفي قلبها.
وها هي، كل يوم، تجلس إلى جواري، تعد لي ما فعلته لها، وتقول: ليتني أوفيك حقك.
أسند بديع رأسه إلى الكرسي، وعيناه معلقتان في الفراغ، ثم قال بنبرة غارقة في غبار الحزن:
ـ منذ البارحة وأنا أفتش في ذاكرتي، فلا أجد إلا الخواء...
سألته هامسًا:
ـ عن أي شيء تفتش؟
أجاب وهو يبتسم بسخرية مرة:
ـ أفكر أن زوجتي لم تترك لي موطئ قدم لأدخر فيه معروفًا واحدًا...
فماذا سأجني غدًا، حين يكسو الوهن عظمي، وتنطفئ شعلتي؟
ساد صمت ثقيل، كأن النرد توقف عن التدحرج، وكؤوس الشاي بردت بين أيدينا.
ثم، فجأة، رفع سمير حاجبيه وقال مبتسمًا:
ـ لا تيأس! أمامك فرصة أخيرة!
أنت ماهر في النرد، وزوجتك تعشقه، أليس كذلك؟
اهزمها مرة واحدة...
ثم امتنع عن اللعب معها إلى الأبد!
قهقه، وأضاف:
ـ ستقضي حياتها تطاردك لتستعيد انتصارها الضائع.
ضحكنا...
ضحكنا كثيرًا، كما يضحك الذاهبون إلى المجهول،
نخبئ في قهقهاتنا خوفًا لا اسم له، ونحاول، أن نتواطأ على الأحزان بالكلمات واللعب،
ونخدع الزمن ساعة أخرى.
تعليقات
إرسال تعليق