اليد الناعمة
قصة ~ اليد الناعمة
الكاتبة ~ الشيماء زقزوق ~ تكتب...
«««««««««««««««««‹««
اليد الناعمة
في مساءٍ شتويّ دافئ، وبين جدران بيتٍ امتلأ برائحة الذكريات، جلست "الراضية" على أريكتها العتيقة ، تحدّق بصمت إلى الباب، كأنها تنتظر شيئًا غاليًا على القلب. وما إن انفتح الباب، حتى أشرق وجهها كقمرٍ خرج من خلف الغيوم، فقد عاد أحفادها بعد غياب أسبوع كامل بسبب الامتحانات.
"أحبابي... يا ثمرة عمري، وحشتوني كتير، الله يسامحها الامتحانات!"، قالتها وهي تفتح ذراعيها بشوقٍ ودمعة معلقة في عينيها.
ركض الأحفاد نحوها، وكلٌّ منهم يحمل طريقته في التعبير: من قبّل يدها ذات التجاعيد الناعمة، ومن طبع قبلة على رأسها ووجنتيها، ومن عانقها بشدة كأنه يعوّض عن كل الأيام التي مضت.
قالت الحفيدة الصغرى بدهشة بريئة:
"الله يا جدتي! يدك ناعمة جدًا!"
ابتسمت الجدة ابتسامة لم تكن عادية... كانت تحمل في طياتها آلاف الحكايات:
بسمة ممزوجة بالحزن، بالألم، بالصبر، بالامتنان. بسمة امرأة واجهت الحياة وحدها، فربحتها بقلبها لا بيدها فقط.
اقترب الحفيد الأكبر منها، وجثا على ركبتيه قائلًا:
"جدتي... ما سر هذه البسمة؟ وماذا تخفين في قلبك يا حبيبة الجميع؟"
ربتت الجدة على كتفه، وقالت بصوت خافت كهمس الأيام:
"يا أغلى من روحي، هذه اليد الناعمة ليست ناعمة كما تراها... إنها ناعمة لأنه كان معها قلب لا يعرف الأنانية. عمّك محمد... هو السبب."
سكنت الغرفة للحظة، ثم تابعت وقد عاد صوتها ينبض بالذكريات:
"كان أبوكم لا يزال طفلًا حين رحل والده، وجدكم، فجأة، وتركني في عمر لم أتجاوز فيه الثلاثين، ومعي أربعة أطفال... أصغرهم عمكم طاهر كان رضيعًا لا يُفطم. كنت وحدي، بلا سند، بلا أخ ، فقط الله ثم قلبي الذي رفض أن يستسلم."
صمتت لوهلة، ثم أكملت:
"عمّكم محمد كان لا يزال في المرحلة الإعدادية، لكنه حمل المسؤولية كما لو كان رجلاً ناضجًا. عمل في كل شيء، تحمل الجوع والتعب، ليطعمني وإخوته، ليعلّمهم، ليحميني. لم يكمل تعليمه، لكن الحياة علّمته أكثر مما تعلّمه المدارس."
قالت وهي ترفع يدها وتنظر إليها:
"هذه اليد تشققت من العمل، لكنها نعمت حين لمسها برّه. محمد لم يتركني يومًا، حتى بعدما تزوّج، عاش معي، يخدمني، يرعاني، كأنني بنته، لا أمه."
ثم التفتت إلى أحفادها، وقد امتلأت عيناها بالعبرات:
"أدعو الله أن يبارك فيه، وفي أولاده، وفي زوجته الطيبة التي أحبّتني كما لو كنت أمها. وها أنا اليوم... لا أشكو وجعًا، لأن في قلبي رضا، وفي بيتي أحفاد مثلكم. ومثل أولاده الغوالي.. أمل وامتداد لبرّه."
ساد الصمت، وتجمّد الزمن للحظة، بينما ظلت يد "الراضية" ممدودة على حجرها، ناعمة، راضية، مطمئنة.
تلك اليد التي لم تنعم بالراحة إلا حين أمسك بها ابن بارّ، فحملها كأنها كنز... فصارت اليد التي علمتهم معنى البرّ، ومعنى الحياة.
#الشيماء زقزوق
تعليقات
إرسال تعليق