مراثي الأكفان



 ق ~ ق ~ مراثي الأكفان

الكاتب ~حسين بن قرين درمشاكي~ يكتب...

««««««««««««««««««««««

مراثي الأكفان


الإهداء إلى أم الشهداء السبعة الدكتورة [ الاء النجار ] .


ها أنا أتأملك يا أماه، وكأنك قامة الفقد الشاهقة على عرش النحيب. عيناي ترتويان من معين حزنك السرمدي، كترتيلة حارقة تهتف بها أضالع الروح المتأوهة، فيتلاشى أمامها صليل الكلمات، وتخفت أبجديات العزاء. سبعة أكفان بيضاء، كبياض الفجر المدنس بدماء المغيب، تمددت أمامي. كل وشاح منها يطوي نبض حياة اغتيلت على مذبح القدر الأعمى، وحلم طفولة تهشم على صخرة القصف الغاشم، الذي جرد الوجود من ريعانه، مخلفاً رماد الأنين.

أتذكرين يا كبد الصبر الذي ما زال ينزف، يوم كانت أناملك الأثيرة تجدل لهم ثياب العمر من شغف الأمل المتوهج؟ وكل غرزة كانت لحن حب يغني لمستقبلهم الغض، كأنها شعاع كوني يبث نوره في فجر خالد. فأين تلك الأثواب الآن، وأين قهقهاتهم التي كانت تعمر فضاء الدار، كرفرفة أرواح الفرح في قدس قلبك، وتشبع الفضاء برحيق الحياة الريان؟

لم يبقَ لكِ إلا الأنين المدوي، صدى لصرخات مبهمة تشق حجاب الروح، وتتلوى كأفاعي الوجل في حنايا الصدر المتضرّج. فكل ركن من هذا الهيكل المكلوم يشدو بترانيم الغياب، ويروي جداره مأساة فقد لا تدرك كنهها، كأنها نقوش أزلية غُسلت بماء الفقد المتقاطر. الفراغات التي خلفوها دوامات سحيقة في عمق كيانك، تتسع مع كل زفرة تزفها روحك المثقلة بالأسى، كأنها بئر لا قاع لها تتقد فيها جمرات الحسرة.

أقف أمامك يا أماه، عاجزاً عن لملمة رفات فؤادك المبعثر، كأنني أسعى لجمع شظايا نجم انشطر في مداوم الفضاء. أي حرف يمكن أن يجبر كسر أم فقدت سبعة أقمار دفعة واحدة، كأنها سماء عزلت من كل أنوارها؟ أي سلوى تطمئن جراحاً استنزفت حتى نضبت آبار الصبر فيكِ، وتحول النبع الفياض إلى سراب خادع؟

تلك الأيادي التي كانت تحتضنهم بعشق لا يدرك كنهه، ترتجف الآن وهي تشيعهم إلى ضجعة الثرى الباتر، كأنها وريقات خريف تذريها زوابع القدر المتكلم. تلك العيون التي كانت ترصدهم بحب متقد، تستحيل غيوماً تمطر لهيباً، كأنها سيول من نار تنصب على ثرى مجدب، فيلتهم ما تبقى من براعم الأمل. وكأن كوننا برمته قد تداعى، مخلفاً لك أنقاضاً من الذكريات القاسية، تتراكم كجبال شامخة تئن تحت وطأة الثقل.

أما آن لهذا الرعد المميت أن يلقي أوزاره ويصمت، ولهذا الثرى أن يستنشق أريج السلام، ويستعيد عافيته المسلوبة؟ متى سيكف منجل الموت عن حصد الحقول الخضراء من الأرواح البريئة، وعن بذر اليتم في ديار كانت بالأمس تضج بضجيج الحياة، وتحولت إلى صمت جليدي يغلف القلوب بعتمة الهاوية؟

لا أملك إلا أن أسجل انحناء الخضوع أمام جلال صبرك، وأن ألثم جبينك الذي حفرت فيه مواجع الفقد ألف حكاية، كأنها خرائط لوجع سرمدي لا تدرك أبعاده. لتكن أرواحهم الزكية أزاهير تتفتق في رياض الخلد، وشفيعة لكِ يوم لا يجدي مال ولا بنون، إلا قلب نقي أرهقه الفقد في محراب الإيمان.

لكن فجأة، لمع بصيص نور في عينيها المنهكتين، كشرارة فجر يمزق ركام الظلام. رفعت رأسها، لا لتبكي، بل لتطلق صرخة؛ صرخة اهتزت لها أركان المكان؛ نشيداً مدوياً تكسر فيه قيد اليأس، وهي تردد بصوت جلجل أرجاء الفضاء: لم يخطفوهم! ما زالوا هنا... في عروقي، في أنفاسي، في كل شعاع شمس يولد من رحم صبري! لقد انتصرت! زرعت سبعة نجوم في سماء العشق، وها أنا أقف، الشاهدة الخالدة على أن الحياة... أقوى!


حسين بن قرين درمشاكي

كاتب وقاص ليبي


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع