مسافة بين مدّين
ق.ق ~ مسافة بين مدّين
الكاتبة ~ راضية زيتون ~ تكتب..
««««««««««««««««««
مسافة بين مدّين
كانت تنقّب في أعماق كهفها، لا تعبأ بانتفاخ أصابعها، ولا بالألم الذي يمزق أوصالها، ولا بالطين العالق بثيابها، ولا بغبار شعرها الأشعث.
كل ما يشغلها: كم مضت من الطريق في حفرها؟ تدفعها لهفة عارمة لرؤية قبسٍ من نور يبدّد عتمتها.
ومن بين شفقٍ خافت، امتدّت يد..
رأتها نقيّة، قويّة، حنونة، طريّة الملمس، بهيّة المظهر.
بينما اعتادت على يدها موحلة، خشنة، غائرة الجراح.
تردّدت كموجة بين مدّ وجزر تصارع حيف شاطئها.
أتنحسر وتغيب؟ أم تعود بقوّة وتنطوي على ذاتها؟
مدّت أصابعها بخجل، بين رغبة ورهبة ، لامست دفء اليد الأخرى، فاشتعلت شرارة في داخلها ألهبت جوارحها وسرّعت نبضاتها.
هبت لتزيل طينها وتنفض عن رأسها الغبار، لكنّ قدميها ظلّتا عالقتين في وحلٍ عميق تفوح منه رائحة الواقع المقيت وموثّقتين بحبال الرضوخ.
كتمت أنينها، واستجمعت قواها تجرّ أوزارها بثقل موجع.
ومع كل محاولاتها، لم تستطع اليد الأخرى أن تبلغ أعماق الكهف؛ فقد كانت تنتمي للنور، وتحلّق في فضاء السّمو، فكيف لها أن تدرك ظلمة الحفر؟
كيف لها أن تشعر بمن يخشى وهج الانطلاق، ويرضى بالعيش في عتمة الأنفاق؟
حلّقت اليد في زهو، لعلّها توقظ فيها التحدي، وتكشف الحجاب.
ولم تدري أنّ بحركتها قد تُعمّق الجرح، وتلهب ندوب المحاولة!
استمرّ الصراع بين اقتراب وابتعاد ، وبين جاذبيّة لا تلتقي على موجة واحدة، حتى اختل التّوازن وتقطّعت الوصلات.
هل تستسلم وتغوص أعمق في الطين؟
أم تواصل الحفر؟
أم تصرخ، لعلّ صدى الصوت يحمل الرّجاء؟
وفي مفترق الحيرة والأمل، انهمرت دموع طاهرة، دموع نقاء.
ففي الأعماق لهفة تذيب الجفاء، وما تلوّث في المظهر، يغسله الولاء.
الدّوام ينقب الصخر، وينبت زهرا من خصب الأسى.
يينع أملاً، ويثمر فرحًا، ويعطّر ودّا بنسمات صبا.
وحينها، تمتدّ يد القطف في خشوع، لا تخشى طينًا ولا شوكًا ولا انقطاعًا.
ويفوح العطر في انتشاء ، ويعود للأصل النّماء.
راضية زيتون /تونس
تعليقات
إرسال تعليق