الرخامة التي لم تبتسم



 ق.ق ~ الرخامة التي لم تبتسم 

الكاتب ~ منير بهري ~ يكتب...

««««««««««««««««««

"الرخامة التي لم تبتسم"

لم يكن أحدٌ يلتفت إلى خطواته المتثاقلة على الدرج، ولا إلى البركار الخشبي الأصفر الذي كان يتكئ عليه كما يتكئ الحنين على عكازٍ من الذاكرة.

سي امبارك، أستاذ الرياضيات، ظلّ وفيًّا لقسمه العتيد، ببذلته الداكنة التي أكل المطر زرقتها، ومحفظته الجلدية التي شاخت، كما شاخ هو، دون أن يشكو.

في صباح يومٍ عاديّ، صعد الدرج وهو يتمتم بأرقامٍ لا يسمعها أحد، كمن يحلّ معادلة في قلبه لا على السبورة.

لكن هذه المعادلة الأخيرة لم تُحلّ.

انزلقت رجله، واختلّ توازنه، وسقط.

اندلق الدم من أنفه، كان أرجوانيًّا، ساخنًا، كأنها لعنات العمر الطويل.

تبعثرت أوراقه، تبعثرت معها سنيّ حياته.

وهو الذي ما كان يتأخر عن درسه دقيقة، سقط الآن كمن انتهى وقته في اللعبة.

جاءت سيارة إسعاف متأخرة، تحمل سقفًا حديديًّا بلا نوافذ، كأنها تابوت يتنفس.

نام في المستشفى أيامًا. خيطوا جراحه، جبروا عظامه، لكن القلب... بقي فيه جرحٌ لم يبلغه الطب.

قال لزميلٍ زاره مرة:

"لا أريد تكريمًا منكم... لا أحتاج اعترافًا متأخرًا. ما أريده فقط أن يُترك لي وقتٌ لأزرع النعناع".

لكنه لم يزرعه.

زرعوه هو، في ترابٍ بارد، على عجل.

وعلّقوا لوحة رخامية باسمه على الدرج الذي سقط منه.

لوحة باردة، لا تبتسم، ولا تحزن، ولا تعرف أنه كان يحلم ببيتٍ ريفي، وحديقة، وغنيمات يهشّ عليهن بعصاه القديمة، ولبنٍ دافئ عند الفجر.

الآن مرّت ثلاث سنوات على وفاته.

ما بقي منه سوى مسطرة خشبية، وبركارٍ كالإزميل، ووزرة بيضاء لم تأكلها الشمس، ولم يلوّثها غبار الزمن.

لكن بزقت عليها ترقياتٌ هزيلة، كأنها قطرات ماء يبلّ بها المحتضر حلقه قبل النهاية.

احتفلنا بيوم المدرّس.

شاي باهت.

حلويات يابسة.

ورود مصنوعة.

صور بعدسات هواتف ذكية، وابتسامات رخوة ذابت في صقيع منظومة لا تعرف قيمة من يعلّمها الأبجدية.

ورغم ذلك، نُقسم أن سي امبارك علّمنا أشياء لم تُدرّس في المناهج:

الصبر.

الكرامة.

الاستقامة.

والسقوط بكرامة في سلّمٍ لا أحد يراه.

رحمة الله عليه.

وعلى من شاخ وهو يحمل مشعل العلم حتى انطفأ في يده.

بقلم: منير بهري – المغرب

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع