حنين



 ق.ق ~ حنين 

الكاتبة ~ لوقاف جميلة ~ تكتب...

««««««««««««««««««

حنين 

جلستُ أقلّب الصور في هاتفي، كما يُقلب المنفيُّ حجارة الحقل القديم بحثا عن أثر منسي، أو بقايا مفتاح صدئ، لربما أجد شيئا يربطني ببيت أُزيل من الوجود. وإذا بعيني تقعان على صورة لطريق موحشة، يغمرها عشب ذابل، روي بدمع العزلة الصامت . طريق أنهكتها الوحدة ولم تعد تعني أحدا، كانت بالأمس لنا الوطن كلّه، الحلم والمأوى.

في الصورة، كان الطريق ينبض بأثر أقدام الأحباب والخلان، يشقّ التراب بطين حذاء أبي، ويحتفظ بأنين خطى جدّي الراحل وهو يغرس سنابل القمح عند حاشية الوادي. كأن الحنين ذاته قد تجسد، لاهبا يذيب القلب، تبصره الروح في الأعماق.

سرتُ نحوه، تقودني الذاكرة... الحجارة تنطق بأسماء مألوفة، والهواء يهمس بصدى من زمن لا يزال ينبض. حتى الطريق ذاته كان يدلّني على ما تبقّى من الأثر.

وقفتُ عند شجرة التين العتيقة، التي كانت تبسط ظلها لأخي الصغير في الصيف. أجدها عرجاء، كسيرة، تئنّ من فرط الفقد. مددتُ يدي إلى جذعها، شعرتُ بدفء غريب، كأنها ترد السلام، أو تذكرني بميثاق قديم ظلّ بيننا رغم السنين.

قلّبت الطرف في وجوه أولئك الذين مضوا، وجوه لا تخطئها العين وإن طال الزمان. بحثتُ عن دارنا فلم أجدها؛ كل البيوت في عيني سواء، إلا بيتنا... فقد كانت جدرانه تردّد صوت أمي كأنه نشيد الحياة حين يخفت كلّ شيء، وتبكي حين تغيب.

أسير في الطريق، وكلما خطوت تناوشني شظايا ذاكرة متكسّرة... هذا الدرب الذي حفرتْه أقدام العائلة، جيلا بعد جيل، حتى بلغوا به إلى صمت العدم. وقفتُ عند حافة الحكاية؛ سُدّت السبل في وجهي، وغُرس منفاي هناك، في أرض دون ملامح.

كانت بيوتهم تعتلي التل كيقين لا يهزم، يحتضنها الذهب المتماوج، ويباركها الزيتون بأغصان السلام. لقد عاشوا بأمان حتى داهمتهم جحافل الأعداء، ثبتوا، ولم ينحنوا فلم تهزمهم إلا رصاصة خرساء في زمن قيل إنه السلام، سلام لم يكن سوى موت بلا صوت.

في الصور، تمازجت الوجوه حتى بدت من طين واحد، صُنع منه شعب بأسره. ثقافتهم حكاية تروى على كل لسان، لكنهم تفرّقوا، كل حمل ما استطاع من متاع وذكريات، وسار في درب لا يؤدي إلى أحد. صار بعضهم في مخيماتٍ بعيدة، وآخرون في مدن لم يسمعوا بها من قبل، ومنهم من غاب أثره في بحر لا شاطئ له. ولم يبقَ لي إلا هذا الطريق... أبحث فيه كمن يبحث عن عنوان ضاع، أتلمّس بحذر عتبة بيت أبي، التي ربما طمرها التراب أو هدمها النسيان.

في آخر الطريق رأيت طفلا واقفا، ينظر إليّ. كان يرتدي قميصا باهت اللون، ويحمل بيده طائرة ورقية ممزقة الأطراف. لم يكن من أهل القرية، ربما خرج من رحم الصورة القديمة، أو من زمن لم يعد موجودا. رمقني بعينين واسعتين، فيهما دهشة وخوف وشيء من الرجاء. أردت أن أسأله: من أنت؟ ماذا تفعل هنا؟ لكن لساني انعقد.

ابتسم الطفل لي، ثم جرى صاعدا التل، كأنما يقودني إلى شيء كنت قد نسيته. سرت خلفه بلا وعي، والخطى تُورق في الأرض، تستعيد الحياة. وحين وصلتُ القمة... كان الطفل قد اختفى. لم يبقَ سوى الطائرة الورقية عالقة على غصن زيتونة عجوز.

في تلك اللحظة، تذكّرت كلمات أبي:

– الطريق أطول من أعمارنا... لن تضلوا ما إن تمسكتم بأثر الحلم.

وفي هدأة الليل، عدتُ إلى مرآة روحي تلك الصورة التي لم تفارقني، تأملتُ الطريق مرة أخرى... فرأيت فيه خطوات محفورة حديثا. خُيّل إليّ أنها له.

حدّقتُ طويلا...فإذا هي خطواتي أنا!


 لوقاف جميلة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع