ذكريات معلم
قصة ~ ذكريات معلم
الكاتب ~ زايد التجاني ~ يكتب..
««««««««««««««««««««
ذكريات معلم
الساعة الآن العاشرة ليلا.. أحسست با رتخاء في أعضائي ، ضوء الشمعة يتراقص على أنغام نباح كلاب متقطّع، ووقع حوافر بعض الدواب يدخل على الخط بدون استئذان .مددت رجليّ تحت الفراش ، شعرت برعشة في أوصالي لبرودة الجو . كان صوت أم كلثوم يخترق صمت الغرفة … وموسيقى عذبة تنساب كما الأوكسيجين في عروقي…زمن جميل مضى أراه كسحابة صيف سرعان ما اختفت..
أغلقت عيني ببطء، انتصبت صورة المدير فجأة تردد: اسمع يا ولدي، ستذهب الى قرية نائية، ستدرس في غرفة قديمة ريثما يبنون المدرسة قريبا، أبشر.. سيبنون السكن لك أيضا.
مجرد وعود تدحرجت مع الأيام.. ووعودهم تطول.. وقد طالت سنوات ... كانت” فكروني” تنسج خيوطا شفافة من اللحن الجميل، وضوء الشمعة يجاهد جيوش الليل البهيم، فجأة سمعت خشخشة … رفعت رأسي قليلا.. أصخت السمع.. خفضت صوت الجهاز لأتأكد لكن لا شيء! عدت فوضعت رأسي وشرعت أحرك رأسي تجاوبا مع النغم.. هنا تحركت آنية، خشخشة أخرى؟ كأن حجرة ألقيت على الماء الراكد فهاجت هواجسي تتراكل في الصدر. قمت بحذر.. اتجهت نحو مصدر الخشخشة، المصباح اليدوي بيد وفردة حذاء بأخرى ..تجمدت قرب المصدر، ارتفعت تصفيقات الجمهور! ضحكت، على من يصفقون؟ عليّ أنا ؟ أم على هذا الملعون الذي اختفى؟!
وجوه الجدران ملأى بالتجاعيد وتجاويف السقف الخشبي تؤوي عناكب تتربص بالحشرات الطائرة، فتحة أسفل الباب المهترئ تدخل هواء باردا يرعش الأبدان، أوراق وجذاذات تشهد على فوضى عارمة تحتل المكان ،بجانبها كتب علاها الغبار… تذكرت الجامعة والمكتبات ، المدينة المفعمة بعبق الحياة …ما هذا يا أستاذ ؟ جفت الأقلام وطويت الصحف …كنت ممددا على السرير لا أحرك ساكنا كالميت، أغمضت عيني في استرخاء مطلق.. أطلقت زفرة، تأففت.. تأملت الحظ الذي رماني كسهم إلى هذه الجبال.. البيوت مبنية على طريقة ” التابوت ” ، لا ماء ولا كهرباء ولا طريق معبدة.. أيام ثقيلة الخطى وليال تلف كياني بثوب الصمت.. شعرت أني رقم ضائع في هذا الوجود، إذا أردت قضاء حاجتك فما عليك إلا الانزواء في حفرة ما أو وراء شجرة وتقارع البرد القارس بصبر وأناة. الناس بسطاء تُـسمع ضحكاتهم من بعيد.. أهازيجهم تنطلق من الحقول مرفرفة كجناح نسر في السماء.. يعملون ولا يملون كالنهر في جريانه.. أبرياء يعيشون حياتهم الصعبة بكل رضى.. قطعت حبل أفكاري كلاب تنبح بقوة من جديد في الخارج، وأم كلثوم في سكون الليل تذكرني بذكرياتي، بأحلامي، بـحّ صوتي من تردادي للحروف والكلمات: ب. بغل، با .. باب، ت. تمر أستاذ؟ أريد المرحاض.. أستاذ...أستاذ. ضجيجهم لا يزال يطن في أذني ثم.. ارتفع صوت خشخشة ثانية، همست، تالله لأجاهدنّ فيك الليلة! حتى أنت يا..
رميت الغطاء جانبا، تسللت ببطء على ركبتي.. ارتفع صوت الراحلة فجأة، دوى تصفيق الجمهور، انتبهت، عدت فاستقمت في حذر، ثم تقدمت في صمْت، إنه هناك، في ذلك الوعاء الكارتوني .. أنرت مصباح اليد، فاجأته ينظر إلى برأسه الصغيرة المدبّبة.. ها أنت ذا أيها الوقح، لوّثت خبزي وكدّرت مشاعري.. ما تظن أني صانع بك؟ هاه ؟ أ أهديك لقط الجوار أم أرفسك بقدمي؟ هاه ؟ تلقفت الوعاء وأغلقته، ثم استدرت إلى الجهاز وصحت: اسكتي يا أم كلتوم ، وأنتم يا جماهير صفقوا ! هذا العدو بين يدي الآن.. العدو يخرمش في جدران الوعاء بمخالبه الحادة، ووقع حوافر دواب تدك الأرض، ونباح كلاب بنبئ عن معركة حامية الوطيس، وأنا أسير الهويْنى وسط التصفيقات إلى الفراش ، أطفأت المصباح وعيناي جاحظتان في الظلام..
زايد التجاني / المغرب
تعليقات
إرسال تعليق